
د.فاضل البدراني
أثناء انعقاد ندوة علمية للجمعية العربية–الأوروبية، بالشراكة مع كلية الإعلام في الجامعة العراقية ببغداد، وفي إحدى طاولات الحوار التي خُصصت للصحافة والثقافة الإعلامية والمنهجية الأكاديمية، كان يجلس إلى جانبي الزميل الدكتور أحمد عبد المجيد، وبجانبه الزميلة الدكتورة ابتسام قادر.
كان الحديث يتشعب في أدبيات الإعلام، وإيديولوجياته، وأمزجته وألوانه، والمآلات التي ينحو إليها، وصولاً إلى هواجس الخوف من الذكاء الاصطناعي وسرعة خدمات ChatGPT التي قد تُغري بالإجابات الجاهزة، وربما تُقلق تفكير الإعلامي والباحث الأكاديمي معاً.
عندها ورد إلى خاطري سؤال بدا عبثياً في ظاهره، فسألت الدكتور أحمد:
من هي الصحيفة الأقرب إلى نفسك؟
ابتسم وأجاب من دون تردد:
بالطبع… الزمان.
سألته ثانية: ولماذا الزمان؟
فأجابني بتأهب وثقة، بل بتحدٍّ ملأ ملامحه وفكره:
ألا تدري أنها أبرز صحيفة مستقلة في البلد؟ ومنبر شاهد على زمان العراق وشعبه؟ يعود تاريخ تأسيسها إلى ثلاثينيات القرن الماضي، وتُعد صرحاً إعلامياً عراقياً مخضرماً. تميزت بأسلوبها الموضوعي والتحليلي، وقدّمت محتوى متنوعاً بين الأخبار والتقارير والقصص الإنسانية، ما جعلها مصدراً موثوقاً لقرائها. ثم إنها جمعت بين ثقافتين عراقيتين: جيل الثلاثينيات عند تأسيسها الأول في أيار 1939، وجيل جديد انطلقت معه منذ صدورها عام 1997، وهي اليوم تمثل مدرسة سعد البزاز الإعلامية المعروفة بالمهنية والدقة والمصداقية.
أجبته:
يا دكتور، هذا انحياز منطقي لجهد تبذله يومياً منذ عقدين من الزمن، وأنت ترأس تحرير طبعة بغداد منها.
فقال من دون تردد:
الزمان صارت عنوان الفقراء، ويكفينا أنها الجريدة الأكثر مقروئية داخلياً وخارجياً مقارنة بغيرها.
كانت تلك مشاغبة علمية مهنية دفعتني لتوجيه السؤال ذاته إلى الدكتورة ابتسام قادر، وهي من مدينة السليمانية. أجابت باندفاع يشوبه توتر، وكأن السؤال استفز كيانها:
من دون منافس… مجلة كلاويز.
شاكستها بابتسامة خفيفة قائلاً: لكنها مجلة فارقت حياتها منذ عقود، واصفرت أوراقها.
فردّت ما بين تحدٍّ ودفاع وانتماء:
ألا يكفينا أن نقول كلاويز، أي نجمة الصبح؟ أسسها الأديب الكبير إبراهيم أحمد في 3 كانون الأول 1939 في بغداد. إنها مجلة صنعت فكراً لأجيال عدة، وشكلت عنواناً لثقافة أدبية–سياسية، وتميزت بعملها على التآخي الكردي–العربي. واليوم، فإن مركز كلاويز الذي أتولى إدارته، يعيد أمجاد هذه المجلة وينهل من معين نتاجها الثقافي والأدبي والاجتماعي.
وحين انتهيا من الإجابة، ارتد السؤال إليّ:
وأنت… من هي صحيفتك المفضلة؟
أجبت من دون تردد، وبلا انحياز، مبتسماً:
إنها صحيفة اليقظة.
سألا: ولماذا اليقظة تحديداً؟
قلت: لأنها كانت موضوع رسالتي في الماجستير، ولأنها صحيفة تقدمية تحررية ضد المحتل.
فسألاني باستفزاز ودّي: وهل لديك أقوال أخرى؟
ضحكت عالياً وقلت:
نعم… إنها أقدم من الزمان ومن كلاويز.
ثم جاء السؤال المحرج لذاكرتي:
هل من نموذج يثبت مدى دفاعها عن البلاد آنذاك؟
أجبت: أجل. عند زيارة السير أنتوني إيدن إلى بغداد في آذار 1955، عندما كان وزيراً للخارجية (قبل أن يصبح رئيساً للوزراء)، التمس نوري السعيد باشا من سلمان الصفواني، رئيس تحرير اليقظة، ألا يهاجم الضيف في عموده الصحفي يوم الزيارة. لكن المفاجأة أنه نشر آية قرآنية تهاجم الكافر.
وعلى أثر ذلك قال نوري السعيد:
يا ليتك كتبتَ مقالات عدة، ولا تفعل الذي نشرت.
ابتسمنا جميعاً، وتأكد لنا أن لكل واحدٍ منا موقفه وانحيازه المشروع لمؤسسته الصحافية… انحياز لا يقوم على العاطفة وحدها، بل على الذاكرة، والدور، والموقف.



