النخيل نيوز
آراءنيوز بار

صورة الفلسطيني في خطاب نتنياهو

د. عدي حسن مزعل

 في الخطاب الذي ألقاه رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بعد تشكيل حكومة طوارئ ومجلس حرب استعمل عبارات من قبيل: «الحيوانات المفترسة» و»البربريون الذين نواجههم». ولكي يكون وصفه العنيف هذا مقبولاً ومبرراً لمستمعيه، تبعه بجملة من المشاهد الدامية، منها: «رأينا أطفالاً تكبل أيديهم وتطلق النيران على رؤوسهم»، «نساء حرقوا وهم أحياء»، «شابات اغتصبن وذبحن»، «مقاتلون قطعت رؤوسهم»….. وسرعان ما تبين أن تلك المشاهد قد أخرجها ذهن قالها، وأن الهدف منها كسب تعاطف الرأي العام العالمي، إذ لا وجود لما أدعاه، فلا أطفال قطعت رؤوسهم، ولا نساء أحرقن أو اغتصبن.

 وليحتفظ القارئ بالمفردات الواردة في خطاب نتنياهو «مفترسون» و «بربريون»، وذلك لأنها ليست كلاماً عابراً أو عرضياً في سياق خطابه، أنها تعبير عن عقلية وثقافة راسخة لها تاريخ طويل، ثقافة استعار منها نتنياهو، وقبله ثيودور هرتزل (الأب الروحي للحركة الصهيونية)، الذي يميز بين أوروبا المتحضرة وآسيا البربرية، وعلى نحو مطلق لا استثناء فيه، وكأن آسيا الشاسعة كتلة واحدة لا اختلاف أو تباين بين مجتمعاتها وحضاراتها!، وقد سبق هؤلاء الكثير من الغربيين، سياسيون، أدباء، مؤرخون، رجال دين، مستشرقون، صحفيون، شعراء….. إلخ، في وصفهم لغيرهم، لأولئك الذين كانوا أخر بالنسبة لهم.

غير أن هذه التصورات حول الآخر موجودة لدى معظم المجتمعات والحضارات، التي تظهر على مسرح التاريخ، وخاصة تلك التي يكون لها منزلة وتأثير، وهو أمر ينطبق على الحضارة الرومانية، ومثلها المسيحية لاحقاً، وحتى الإسلامية. ذلك أن كل ما هو أجنبي لا يشبهني لغة ودينًا وثقافة فهو آخر. وأما إذا كان هذا الآخر قد دخلت معه الذات في عداء وصراع، فهنا لا تكتفي الذات بتصويره كعدو وحسب، بل تضفي عليه من مخيلتها شتى صور الشرور، التي تخرجه من دائرة الآدمية إلى دائرة الحيوانية. وهذا بالضبط ما فعله نتنياهو، وقبله الكثير من قادة إسرائيل. ولذلك لا غرابة، في أن يصف هذا الأخير غزة بأنها «مدينة الشر».

وحين توجد «مدينة شر»، فهناك مدينة «خير وسلام»، والأخيرة هي إسرائيل التي نالها الشر، كما نالها فيما مضى على أيدي البابليين. وكأنه يحاكي في وصفه لغزة مدينة بابل التي تصورها التوراة مدينة خطايا وشرور وعدها الرب بالتدمير والإبادة. ومصير غزة شأن مصير بابل «تحويلها إلى دمار»، يقول نتنياهو، ويكرر معه قادة جيشه القول ذاته. وهو ما يحصل على أرض الواقع، كما نرى ونتابع.

 وهكذا، فالصور الواردة في خطاب نتنياهو لم تكن معطى عفوياً أو زلة لسان، أنه يحيل مستمعيه من الصهاينة والغربيين وغيرهم من حلفاء الكيان، إلى ثنائية المتحضر والبربري، الإنساني والمتوحش. وثنائية كهذه تجعل من هويته أعلى منزلة وأكثر قيمة، فهي هوية «المتحضر» و»الإنساني»، وهوية غيره أقل منزلة وبلا قيمة، لأنها هوية «البربري» و»المتوحش».

ووظيفة التمييز هذا أنه يبرر له استعمال أشد الأسلحة فتكاً ودماراً، ويجعل من إبادة «مدينة الشر» أمراً مشروعاً، لأن هوية «البربري» خارج دائرة الحضارة والإنسانية، ولذلك فان إبادته، حتى لو أدى ذلك إلى خرق قوانين الحرب، عمل يكرس الحفاظ على هوية «المتمدن» و «المتحضر» و «الإنساني»، فتلك الهوية هي التي تستحق الحياة وغيرها مصيره الإبادة والفناء.

 والغرب هو من دفع بهذا الخطاب وروج له على صعيد واسع، بل وغرسه في أذهان أجيال عديدة من شعوبه (وما زال). ولهذا، فإن مفردات «برابرة» و «متوحشون» يفهمها السياسيون والمثقفون وحتى العامة في الغرب، إنها تذّكرهم بمهمتهم في الشرق، زمن الاستعمار، كما أنها تشعرهم بأن هناك من يواصل مسيرتهم.

 ختاماً، ثمة مفارقة تكمن في صميم الخطاب الصهيوني المعاصر، وهي أن زعماء إسرائيل تمثلوا الخطاب ذاته الذي كان يتداوله في ما مضى الغرب حولهم.

فهم في أدبيات هذا الأخير «همج» و»غير متحضرين» و»حيوانات» و»محتالون» و»حقراء» و»مرابون»….. الخ. ومنذ زمن يستخدم زعماء الكيان ووسائل إعلامه الخطاب ذاته بحق العرب عامة والفلسطينيين خاصة، وهو سلوك يرينا كيف أن المضطهَد يتمثل خطاب المضطهِد، متناسياً أنه يستعيد تصورات وأفكار لطالما عانى من وقعها، ولطالما أخذته إلى الإبادة والتطهير والتدمير من طرف الايديولوجيات الأوروبية المعاصرة (النازية والفاشية)، تلك الأيديولوجيات التي تجرده من انسانيته وتحيله إلى شيء لا قيمة له، ما يجعل من قتله وتشريده في المنافي عمل لا مشكل فيه. وذلك هو عين ما يعيشه الفلسطينيون منذ أكثر من 75 سنة، ولكن ليس على أيدي الأوروبيين مباشرة، وإنما بأيدي من كانوا إلى زمن قريب جداً ضحايا ومضطهدين في أوروبا! والمفارقة الثانية أن مفردات «الإبادة» و»التطهير» التي عاشها اليهود وخبروا مآسيها، في أوروبا وليس في العالم العربي أو في فلسطين تحديداً، لا سيما في النصف الأول من القرن العشرين، هي ذاتها التي يستخدمها اليوم قادة إسرائيل (حكومة وجيشا) بحق غزة التي حُكم عليها بوصفها «مدينة الشر».

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *