علي المرهج
تجلى هذا الطرح مع فلاسفة التنوير، أو ما يسمى عصر الأنوار، الذين مهدوا لحصول الثورة الفرنسية، التي نادى أصحابها بشعارات الحرية، الإخاء، المساواة، والتي كانت محاولة للخلاص، إلا أنها صارت في ما بعد نقمة، لا سيما على شعوب العالم الثالث، الذي أصبح ثواره الذين يسعون لتحقيق الحرية لشعوبهم، دعاة لإقصاء التنوع والاختلاف.
أصبحت فكرة «التنوير» اكثر تداولاً وحضوراً مع أطروحات (كانط ) في «نقد العقل» ومقاله عن «التنوير»، وقد تناولنا في القسم السابق آراء كانت المُستمدة من رؤيته للتنوير.
لقد كان لأطروحات نيتشه في نقده لمفهوم الحقيقة، وتصدرها الأثر في نقد التنوير، والسعي للتغيير، للخروج من سطوة الفكر العقلاني في يقينياته المُطلقة، في تبنيه لمفهوم «إنقلاب القيم»، وأن الإنسان هو الذي يصنع قيَمه ولكن ليس الإنسان الضعيف القابل للخضوع لمنظومات قيمية بالية، إنه الإنسان «السوبرمان» صانع القيم.
ولربما نجد هنا أن نيتشه من أهم نقاد فكرة التسامح، كونها باعتقاده تدفع باتجاه سيادة قيم الضعف والخنوع والعبودية وإلغاء لطاقة الانسان الأرقى الذي يريد أن يصنع قيمه بنفسه بعيداً عن الدين، في معرض نقده للقيم التي سادت بسبب انتشار المسيحية.
«السوبرمان» في فلسفة نيتشه، رغم وجود ملامح لبقايا مثالية في تصورنا لها، ما هي إلا تصور للإنسان بكل بهائه، ولكنه إنسان قوي لا يرضخ لتصورات إنسان آخر يُشكل له وعيه، إنما هو إنسان يمتلك «إرادة القوة»، لينهض من ركام أخلاق المُستضعفين التي تربى عليها أبناء الديانة المسيحية، ليصنع قيمه بنفسه، خارج أخلاق الذُل والضعف، وخرق نُظمها العقلانية والروحية، للعودة للأخلاق بطابئعها الغرائزية التي وُجد فيها الإنسان، بوصفه كائناً طبيعياً، لا من وجود له خارج «كابينة» السعادة الأرضية، التي يعمل على تحقيقها نيتشه في تصوره للـ «السوبرمان».
يخترق نيتشه في تصوره لفكرته عن الإنسان الخارق «السوبرمان» و إرادة القوة» منظومة هيجل المعرفية، بل والأنطولوجية، ليقلب مفهوم «الوعي الشقي» الهيجلي، ليكون فيه كل نتاج هيجل وتنظيراته بين اليهودية، بوصفها وعيا شقيا، والمسيحية بوصفها «كابينة» للسعادة، ليبني وعياً إيجابياً مُضاداً، لكل معرفة أقيمت على أسس لاهوتية، أو مثالية، أو ميتافيزيقية، ليجعلها في مصاف «الوعي المرذول»، لأنها تخترق نُظم الوجود الإنساني الخلَاق، لتجعل منه وعياً أسير رؤى لا مصداق لها، ولا تحقق وفق قول الوضعيين المناطقة في ما بعد في عالمنا الواقعي.
لقد طرح (هيجل) في مقابل مفهوم التسامح رؤيته للاعتراف في تبنيه لنظام «الاعتراف المُتبادل، لإرادات وحقوق الآخرين. فحقوق المجموع هي أساس تحقق حقوق أي فرد، وهنا يتضح مفهوم هيجل عن «العقد الاجتماعي»، فالعقد يظهر في مجال «الاعتراف المُتبادل»: فأنا أحوز على ملكية شيء مُعين لا عن طريق إرادتي الذاتية، بل عن طريق إرادة الأشخاص الآخرين، وبالتالي أحتفظ بهذه الملكية، لكوني مُشاركاً في إرادة عامة مُشتركة.
«يستعيد العبد في الواقع إنسانيته التي فقدها بسبب خوفه من الموت العنيف، بواسطة العمل. في البدء يُجبر العبد على العمل، من أجل إرضاء السيد بسبب خوفه الدائم من الموت، ولكن دافع عمله ينتهي إلى التغيير».
يؤكد فوكوياما أن فهم أهمية رغبة الاعتراف ـ بوصفها ـ مُحرك للتاريخ، يعتمد على فهم دور الديموقراطية الليبرالية، ونقدها لباقي التصورات الشمولية، مثل تصورات الشموليين من أصحاب الفكرة الدينية الراديكاليين، أو أصحاب النزعة القومية الراديكالية، بل وحتى الماركسية الأممية تُدرج من ضمن هذا السياق، «فالمؤمن المُتدين مثلاً يسعى للاعتراف بمُعتقداته أو بآلهته الخاصة، بينما القومي يسعى للاعتراف بمجموعته اللغوية والثقافية الخاصة.
لقد طرح بول ريكور في كتابه «سيرة الاعتراف» رؤية جديدة لفهوم الاعتراف، تتأتى أهميتها من قيمة آراء (ريكور) نفسه ووعيه الفلسفي التجذيري لهذا المفهوم في الفكر الديني والفلسفي، يُقسم (بول ريكور) إلى ثلاث أنواع هي:
1ـ «الاعتراف بوصفه مُعارفة» أي بناء تصور وادراك يقتضي بناء حُكم؟
2ـ «الاعتراف بالذات»، ومنها التعرف على الأشياء والأشخاص والذات نفسها.
3ـ «الاعتراف بما هو عملية تبادلية» يُمثل التعارف أحد أجناسه، مع ما يلزم عن هذه البنية من التفاعل والتشارك بين الذوات، ومن الصراع والحرب والمُنازعة، التي يكون منها الرباط المدني وحدوث الجماعة السياسية وتأسيس الدولة والحق والتكوين التاريخي.
يعترف (ريكور) في كثير من مواضع كتابه هذا بتأثره بـما طرحه «أكسيل هونيث» في كتابه «الصراع من أجل الاعتراف».
قد نجد أن لمفهوم «التسامح» أهمية في مجتمعنا بالقياس، لتخلي الغرب عنه بعد أن فقد قيمته التداولية في استجابته لواقعهم المُعاش اليوم، لكن يُمكن أن يكون لمفهوم «التسامح» فاعليته في مُجتمعنا العربي عموماً، والعراقي على وجه الخصوص، لتنامي الصراع المذهبي والأثني.