بقلم: جاسم الحلفي
تعيش إسرائيل اليوم على وقع خسائر فادحة، الخسائر لم تقتصر على غزة، وجنوب لبنان، والضاحية الجنوبية من بيروت. فالحرب التي اندلعت في أكتوبر 2023 أظهرت أن لا طرف في هذا النزاع بمنأى عن التكاليف الباهظة التي تفرضها المواجهة العسكرية. وإسرائيل، رغم ما تحاول إظهاره من قدرة على المواجهة، تجد نفسها غارقة في أزمات متلاحقة تطال بنيتها الاقتصادية، والنفسية، والاجتماعية، مما يجعل تجاوز هذه التحديات مهمة عسيرة.
التكاليف المالية التي تتحملها إسرائيل لإدامة عدوانها وتصعيده، باتت باهظة للغاية. فالعمليات العسكرية المستمرة تقدر تكلفتها بـ 500 مليون دولار أسبوعيا، حسب وزارة المالية الإسرائيلية، وهذا يشكل عبئا هائلا على الاقتصاد الإسرائيلي، الذي يعاني من تراجع النشاط في المناطق الجنوبية، وتوقف في الصناعات والزراعة نتيجة الهجمات الصاروخية. كما ان المدن الكبرى، مثل تل أبيب وعسقلان، تعرضت لأضرار بالغة في البنية التحتية، وقُدرت خسائرها المادية بأكثر من مليار دولار. وهذه الأضرار لن تحتاج فقط إلى وقت طويل لمعالجتها، بل ستسبب ضغطا ماليا غير مسبوق على الحكومة الإسرائيلية، ما يزيد من التوترات الاقتصادية.
وقطاع السياحة، الذي يعد من أعمدة الاقتصاد الإسرائيلي، تلقى هو الآخر ضربة قوية. وتذكر الصحف الإسرائيلية ان التحذيرات الدولية من السفر إلى إسرائيل، أدت إلى انخفاض حاد في أعداد السياح، مما فاقم الوضع الاقتصادي الذي يواجه تحديات متزايدة. فالحرب لم تترك مجالا لأي قطاع في إسرائيل ليبقى بمعزل عن هذه الأزمة، حيث تتضاعف الصعوبات الاقتصادية كل يوم.
وعلى الجانب النفسي، تركت الحرب أثرا عميقا في نفوس الإسرائيليين. فالمستوطنون في المناطق الجنوبية يعيشون في حالة من الخوف المستمر، حيث تنتشر بشكل متزايد، وفق ما أعلنت التقارير الطبية الإسرائيلية، اضطرابات نفسية منها ما يسمى اضطراب ما بعد الصدمة (PTSD) ، لا سيما بين الأطفال الذين نشأوا في بيئة من العنف الدائم. وهذا الشعور المستمر بالخوف يعمق الأزمات النفسية، ويهدد المجتمع الإسرائيلي بالتفكك على المدى الطويل.
الهجرة الداخلية من المناطق الجنوبية إلى المدن الكبرى مثل تل أبيب وحيفا، بحثا عن الأمان، زادت من الضغط على البنية التحتية والخدمات في تلك المدن. وخلق النزوح توترات اجتماعية بين سكان المدن والنازحين، وزاد من حدة الانقسامات الاجتماعية، مما يجعل إعادة اللحمة إلى المجتمع الإسرائيلي، المأزوم أصلا، أمرا صعب التحقيق في ظل استمرار هذه الظروف.
وإلى جانب التحديات الاقتصادية والنفسية، تواجه الحكومة الإسرائيلية انتقادات شديدة بسبب فشلها في التنبؤ بالهجوم الذي نفذته حماس، والفشل في استعادة الأسرى، الذين يشكلون ملفا ضاغطا يزيد من التوتر داخل المجتمع. ولم تأت الانتقادات من المعارضة فقط، بل ومن أعضاء في الحكومة نفسها، ما يفتح الباب أمام احتمالات تغيير سياسي وزعزعة للاستقرار الحكومي.
من جانب آخر يرصد المتابع لوضع إسرائيل الداخلي التوترات بين اليهود والعرب في المدن المختلطة، والتي شهدت تصاعدا كبيرا منذ بدء الحرب، مما يهدد النسيج الاجتماعي الإسرائيلي المتصدع أصلا، بمزيد من التصدع. فيما ستكلف إعادة بناء ما دمرته الحرب مليارات الدولارات، وستفرض اتخاذ الحكومة إجراءات تقشفية ثقيلة على افراد المجتمع. وهذه التحديات تجعل من الصعب على إسرائيل مواجهة المستقبل بقوة، وتضعها أمام معضلة البقاء في حالة ضعف داخلي يستنزفها.
ان الخسائر التي تكبدتها إسرائيل منذ أكتوبر 2023 لا تقتصر على الجانب العسكري، بل تتعداه إلى الاقتصاد والمجتمع والسياسة. وأمام هذه الأزمات المتشابكة يبدو أن إسرائيل تواجه مستقبلا غامضا، وقد تجد نفسها مجبرة على إعادة التفكير في استراتيجياتها العدوانية والاستيطانية الاحتلالية، التي تمارسها بأساليب فاشية.