النخيل نيوز
آراءنيوز بار

انتقال التاريخ من المؤرخين  الى الإعلاميين

د. علي السعدي

التاريخ ،وكيفما قرأته ونظرت اليه ،لابد ستخرج بنتيجة انه “فعل الانسان في الجغرافيا ” فلا جغرافيا دون تاريخ ،ولاتاريخ دون انسان ،لذا أطلق على العصور الموغلة في القدم /ماقبل التاريخ ،حيث لم يكن الانسان قد ابتكر مايدون به أحداثه ، لكن ولأن أحداثه تخصّ الحكام والملوك بدرجة خاصة ،ماخاضوه من حروب وماسجلوه من انتصارات ، وما حصل في عهودهم من انجازات ، لذا غالباً يمتلأ التاريخ بسيل من الأكاذيب التي تظهر الحاكم بأبهى صوره ، وماكتب في عهده ،يتناقل تدوينه ماجاء بعده ،أما تأكيداً واستدلالاً ، أو نقضاً وتكذيباً ، وهكذا وجد مايطلق عليه ” المصدر” التي على المؤرخ ان يبحث عن كم كبير من الايرادات المتناقضة أو المتناقلة ، ليكتب مادته في تاريخ ،يبدو كقدر تملأه الثقوب أو على حد قول النواب ” الجثة تتفسخ من أين أردت اسندّها ” .

التاريخ ، ولأنه  العلم الذي اوكلت اليه الاجابة عن أسئلة ثلاثة : ماذا حدث ؟ – كيف حدث ؟ لماذا حدث ؟؟

لذا على المؤرخ أن يعمل وفق نظرية السلطات الثلاث (*)  في الانظمة الديمقراطية ، استقلالية وتكامل معاً ، في المرحلة الأولى بمثابة السلطة التشريعية التي تسن قوانين الحدث وترسم معالمه ، وتحت مقولة ” ترسم الطريق ولاترصفه ” لذا تخبر عن وقوع الحدث ،من خلال الاجابة على سؤال :ماذا حدث ، وهذه المرحلة تحتاج الى الكثير من المصادر( الشهود)  التي أوردت وقوع الحدث ،ومن استجوابها وتنقيتها وبلورتها ،لاستخراج المعقول والمنطقي منها ،قبل اعتماده .

أما المرحلة الثانية :كيف حدث ؟ فتحتاج الى مصادر أكثر دقةّ وموثوقية ،واستناداً الى وثائق مؤكدة أو أكثر قرباً من الوثوق ،كما تحتاج الى صبر واحاطة من المؤرخ ،وقدرة على الفرز والتمييز بين الذاتي والموضوعي ،أي بين من تدخلت الرغبات والاهواء في صياغته ،وبين من كتب على اسس علمية منهجية ، تناولت الحدث ذاته وبكل تفاصيله ،في ايراد الوسائل  المستخدمة في الحدث ،والشخصيات المشاركة ،والنتائج التي آلت اليها ،وهذه المرحلة بمثابة ” السلطة التنفيذية” .

المرحلة الثالثة : لماذا حدث ؟ هي بمثابة السلطة القضائية ،فهي المخولة بتفحص الأدلة  المقدمة ،وربطها بحقيقة الحدث ،وطريقة وقوعه وأسبابه وحيثياته ،وظروفه ، ثم استخلاص النتائج ، وبالتالي ينبغي لهذه المرحلة ان تتمتع بمقدار كبير من الصدقية والدقة والنزاهة في التوصل الى الاحكام ، وعليها أن تستعين بجهات علمية لاعلاقة لها بالحدث التاريخي بشكل مباشر ،كعلماء الفيزياء والكيمياء والطب وعلماء النفس والاجتماع ،والاقتصاد ، وغيرهم ، كي يكشفوا كل مايمكن من الحدث بمختلف جوانبه ، ومن ثم التوصل الى الاجابة في : لماذا حدث ؟

ولأن المؤرخين في هذه المرحلة تحديداً ،هم القضاة ،ولأن القاضي لايستند الى احكام سابقة في حدث ما ، بل على مالديه من أدلة تتعلق بالحدث ذاته  ، حتى مواد القانون يمكن ان تتغير او تتدرج في الحكم طبقاً للظروف المصاحبة ، لذا لاتحتاج هذه المرحلة من التاريخ ، الى مصادر سابقة لاعتمادها ـ بل الى موضوعية /عقلية – وكفاءة مهنية .

المرحلة الحالية في التاريخ العراقي ،تجاوزت كل تلك المنهجيات العلمية، وانتقلت من المؤرخين المتخصصين ، الى الاعلاميين العابثين ، واصبحت هناك مئات ” المصادر” مما يقدمها الاعلام بشكل متناقض وأكثر التصاقا بالأهواء والتوجهات المسبقة .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *