
احمد الشيخ ماجد
عند انتهاء كل شهر من أشهر عامنا الحالي 2025، تتصاعد الأصوات حول الانتخابات النيابية المقبلة في العراق، فضلاً عن الصراع السياسي ومحاولة التكسب والتضارب بين الخصوم التقليديين والجدد من شرائح “التجار” والشيوخ الذين ظهروا مؤخرًا. أقول إن الانتخابات المقبلة والدعوة للمشاركة فيها والنقاش حولها، يشبه الواقع السياسي الذي أحكم قبضته على البلاد بعد العام 2022، وهو واقع جامد، يميل إلى الأحكام الجاهزة، ويجعل من الأكاذيب زاوية نظر يمكن أن تتحول إلى “حقيقة” غير قابلة للنقاش.
هناك توجه سياسي جديد بعد انتخابات العام 2021، يحاول “تقديس” الانتخابات وإظهارها كفعل لا يقبل الشك بتأثيراته “الإيجابية”
لا يدخل النقاش العراقي بأوقات كثيرة في تصورات طبيعية أو هادئة، إنما يحمل أمزجة انفعالية وعصابية، وفيها ما هو “تخويني”، أو غير ديمقراطي أصلاً، والمفارقة هنا؛ أن النقاش حول الانتخابات كمنتج ديمقراطي، يتحول إلى إقصائي يتمّ تصنيف الناس فيه بأحكام مسبقة عبر ثنائيات الحق والباطل، وبدأت بالفعل عمليات اتهام متبادل بين المقاطعين والمشاركين، فضلاً عن أن أنها تصدر من أعلى المستويات، وهو إثبات لما ادّعيه حول النقاش الذي يشبه في مقدماته ومخرجاته الجمود الذي ضرب البلاد إثر تفرّد الإطار التنسيقي بالحكم بعد العام 2022.
قبل فترة، فإن رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، وفي تصريح نشره ثم حذفه، قال إن “الجهات الداعية إلى مقاطعة الانتخابات تسعى إلى عرقلة الإصلاح وإجهاض مشروع التنمية والوقوف بوجه جهود بناء الدولة”. ولا ندري كيف يتمّ السعي بهذه الطريقة “الهجومية” لإقناع المقاطعين بالمشاركة عبر اتهامهم مسبقًا بأنهم يقفون بوجه جهود بناء الدولة، لكن على أية حال، يعتبر حديث السوداني طبيعيًا نظرًا لإمكانية استفادته في الانتخابات باستغلال الهيكل التنفيذي للدولة في جلب الأصوات، لكن يمكن النظر إلى تصريحه كإشارة إلى الجوانب الانفعالية في هذا النقاش العراقي تحديدًا دون محاولة معرفة جذور الأمر، ولم أن هناك جماعات بشرية كبرى، لا تنتخب.
والأمر لا يقتصر على السياسة وحسب، بل أن الأوساط الثقافية التي كانت لها آراء نقدية شديدة ضد النظام السياسي الذي أفرغ الانتخابات من جوهرها، ترى اليوم أن فعل المقاطعة يشير إلى “عدمية شديدة ومحرّك بنوايا غير صحية”، وهي افتراضات تشير إلى قدرة الانتخابات على أن تزيح “قوى السلاح”، أو تجعلها لا تنفرد بالمشهد، مع أن في الجانب الآخر، وهي تيارات المعارضة، لم تنعزل عن المشهد تمامًا في انتخابات 2021، وحصلت على مقاعد مثل “حركة امتداد”، وبعض المستقلين، لكنها تشظت وانتهت التجربة إلى “نواب حكوميين” أو نواب يسعون إلى تبليط شوارعهم بأحسن حال، وحتى افتراض أنهم لو كانوا أكثر عددًا سيساهمون بالتأثير على تفرّد القوى التقليدية وسيطرتهم على الفضاء العام، فيه نقاش طويل، سنأتي عليه.
كنت قد تحدثت في الآونة الأخيرة، عن توجه سياسي جديد بعد انتخابات العام 2021، يحاول “تقديس” الانتخابات وإظهارها كفعل لا يقبل الشك بتأثيراته الإيجابية الكاملة، بالإضافة إلى أن العيب الوحيد يكمن في الناس الذين يقاطعون أو غير المكترثين بما يجري، وهذه التصورات لا تعتقد أن “لا مبالاة” الناس تعود إلى فشل طويل في أن تكون الانتخابات معبّرة عنهم، فضلاً عن الجو السياسي العام وقربه أو بعده من الديمقراطية، والظروف التي يصنعها على مستوى الاقتصاد وجودة الحياة والخدمات.. الخ، وهو نقاش برأيي يحاكم النتائج دون النظر إلى الأسباب العميقة لأعقد الإشكالات السياسية في بلاد، تتصاعد فيها “المقدسات” مع تصاعد إنتاج النفط! أقول إن ما بعد العام 2021، جرى إفراغ الانتخابات من كل قيمة ديمقراطية، بدءًا من طرق الترشيح واستخدام موارد الدولة والتنافس واستثمار فائض القوة، وصولًا حتى إلى إعلان نتائج نسب المشاركة وما فيه من احتيال بالأرقام، وهو أمر، فصّله مؤخرًا، الصديق زيّا وليد في بودكاست عن الانتخابات.
شخصيًا، لن أدعُ إلى مقاطعة الانتخابات أو أتبنى الدعوة إلى ذلك، لكني أكتب عدة ملاحظات للنقاش، طالما أن التوجه وصل إلى “تقديس” الانتخابات، بلا حراك حقيقي لطرح الأسئلة وتبادل وجهات النظر الهادئة حول عملية اقتراع تشكل أهمية جوهرية في حياة الناس بمشهدية يرسخ النظام فيها عملية الادّعاء المستمرة، دون إصلاحات حقيقية وجذرية تصحح المسار السياسي المتعثر في البلاد.
كان النقاش قبل الانتخابات المبكرة التي أجريت في العام 2021، حول الأجواء العامة التي تسبق الاقتراع، مثل الأمن الانتخابي، وشكل التنافس مع القوى التقليدية التي راكمت سنوات من الخبرة الطويلة والثروة والنفوذ، بمعنى أن الحديث كان في التهيئة للانتخابات وكيف ستجرى وما هي طرق التعامل مع نتائجها، باعتبار أن التغيير كان متوقعًا بعد الغضب الشعبي الذي شهده العراق في خريف العام 2019، أما بعد القضاء على كل مخرجات الاحتجاجات في العراق وعودة القوى السياسية إلى أقوى من ذي قبل، وتجاهل كل ما حصل في الشوارع، فإن عدم النظر لـ”الخيبة” أمر غريب وربما يشير إلى عدم وضوح الرؤية.
حققت انتخابات 2021 وقبلها الدورات الأربع، قناعة شبه راسخة، بأن القوى التي تطرد من صناديق الانتخابات، ستعود من باب آخر للإمساك بالسلطة، حيث أن النتائج ومهما كانت، ستؤدي إلى عودة القوى التقليدية رغمًا على السياق وما يفرضه، وربما تستخدم الصواريخ أو تتصاعد أشباح حرب أهلية تكاد تنفجر في أي لحظة، كما حصل في الاشتباكات التي حصلت على أبواب المنطقة الخضراء في آب/أغسطس 2022، وهي أحداث يحتاج دعاة المشاركة فيها إلى أن يقدموا أجوبة؛ كيف يمكن عبورها فيما لو خسر هؤلاء من جديد على افتراض خسارتهم!
إن واحدًا من أهم المبررات التي تجعل الانقلاب على النتائج الانتخابية سهلاً هو أن القوى التقليدية المهيمنة تحمل خزان مظلومية الطائفة الذي لا ينضب في جعبتها، والنتائج غير المرضية بالضرورة، ستخرجه بوجه الذين يريدون “إنهاء المكون الأكبر”، وهذا الخطاب خرج بأشكال تعبيرية مختلفة بعد الانتخابات المبكرة، حيث أن عدم وجود “السياسة” يجعل آليات التنافس متداخلة بين الديني والطائفي، والحديث عن البرامج السياسة يبدو ساخرًا في هذه الحالة. إن قوى الإطار التنسيقي، نجحت في قلب السياق الذي كان يسير منذ 2015 بآليات طبيعية في العلاقة بين الناس والنظام، وحوّلت الانتخابات إلى مشهد متكرّر للحفاظ على التوازن داخل الائتلاف الشيعي وحسب.
في انتخابات 2021 وما زال المثال فيها، جمع “التحالف الثلاثي” قرابة 205 من المقاعد في جلسة من الجلسات التي نجح في عقدها، لكنه لن يفعل شيئًا وانتهى إلى تفكك بانسحاب زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، ومن ثم إخراج محمد الحلبوسي من رئاسة البرلمان، فضلاً عن تحوّل دور “البارتي”، وهو الحزب الكردي الأكبر، إلى مُطالب بتوفير الرواتب وحسب. ربما يبدو الحديث هنا اختزاليًا لصراع دام لأكثر من عام، لكن النتيجة كانت كذلك. يمتلك التيار الصدري فصيلاً مسلّحًا وقاعدة لا يستهان بها، فيما لدى الحزب الديمقراطي الكردستاني علاقات تاريخية ووثيقة مع شيعة الحكم ولديه جماهيره الكبيرة، بالإضافة إلى حزب تقدم، وما يمتلكه من قاعدة في مدن غرب العراق وبعض المناطق التي يسكنها غالبية سنية، لكن القوى التقليدية متمثلة بالإطار التنسيقي، رأت أن هذا التجمع يشكل تهديدًا ومقدمة لـ”خسارة المكون الأكبر لحظوته في تشكيل الحكومة”.
من أهم المبررات التي تجعل الانقلاب على النتائج الانتخابية سهلاً هو أن القوى التقليدية المهيمنة تحمل خزان مظلومية الطائفة الذي لا ينضب في جعبتها
لم يكن التحالف الثلاثي ينافس قوى الإطار بمنطق المعارضة أو ما يسمى بـ”المدنية”، وإنما كان ضمن السلطة ويشترك فيها مع الآخرين، لكنه وحين أراد أن يخرج من السياق المتبع منذ انتخابات 2010، خرجت الصواريخ عليه، وفعليًا حبست البلاد أنفاسها بانتظار اشتعال حرب أهلية بين الصدريين وقوى الإطار من فصائل مسلحة وجماعات ضمن قوى الأمن، ومن هنا تنطلق الأسئلة عن جدوى الانتخابات، وإذا كانت الجماعات التي تهيمن على الحكم، ستسمح لأي أحد بأن ينافسها على مواقعها، أو أنها تستطيع أن تخسر تعزيز تفردها بالمشهد خلال السنوات الأربع المقبلة.
ما حصل من نكسة ديمقراطية وانقلاب على النتائج وإنهاء كل مخرجات انتخابات 2021 التي كان من المفترض أن تكون احتجاجية نظرًا لما شهدته البلاد في تشرين الأول/أكتوبر 2019، هو ما يدعو إلى مراجعة حقيقية لعملية المشاركة في الانتخابات، وليس لوم مجموعات المقاطعين الذين لا يمتلكون أجوبة أيضًا، لكنهم يمتلكون الأسباب الكثيرة لموقفهم، وبطبيعة الحال، أن الصمت في السياسة، هو موقف وحسب.
يتحدث الكثير من دعاة المشاركة الآن على أن النظام يسمح لدخول الوجوه الجديدة فيه، وإذا أردنا العبور على النقاش الأساسي، فإن النظام السياسي يسمح لدخول وجوه جديدة فيه نعم، لكنه لن يسمح لهم بالعمل خارج أعرافه التي وضعها بعد العام 2005، ومن هنا يدور النظام السياسي في دائرة جامدة ولا تختلف في مخرجاتها مع ما يحصل خلال عقدين من الزمن. يريد النظام السياسي “ديكورات” مطيعة يضعها في “ورطة” حقيقية مع جماهيرها من ناحية تطبيق البرامج والخطاب، ومن يريد أن يلعب سياسيًا، سيتم إفراغه من محتواه، ويبدو مثيرًا للشفقة في لعبة لا يراد لها أن تخرج من الطائفة المهيمنة وإليها.
نجح النظام السياسي أيضاً في إنهاء دور العمل التشريعي خلال السنوات الأربع الأخيرة، وتبيّن أن التنافس بين المتنفذين سابقًا، كان محركًا جيدًا للعمل النيابي، لكنه الآن بلا عمل، كأنما من يدخل فيه، يكوّن قوة مالية وحسب، أو “يكوّن نفسه”، بالتعبير العراقي، وما حصل مع المستقلين الذين يمثلون الاحتجاجات خير دليل على ذلك. لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا تشريعيًا مهمًا أمام المد الذي أراد النظام أن يصل إليه في إنهاء كل شيء، والعودة إلى اجتماعات يجريها أشخاص لا يتعدون اليد الواحدة في اجتماع الإطار التنسيقي لتحديد مصير البلاد، وهو ما يجعل أيضًا الحديث بالمشاركة لـ”تطوير العمل الديمقراطي”، أمر فيه الكثير من الأوهام بالنسبة للناس.
النظام السياسي يسمح لدخول وجوه جديدة فيه نعم لكنه لن يسمح لهم بالعمل خارج أعرافه التي وضعها بعد العام 2005
في واحدة من شذراته، رأى الفيلسوف سلافوي جيجك، أن التصويت في بعض الديمقراطيات الغربية، مثل ضغط الزر الذي يغلق باب المصعد: إنه يوهمك بتسريع الإغلاق لا أكثر، والانتخابات العراقية بتجاربها المريرة، توهمك بوجود ديمقراطية، لكن الحقيقة موجودة في ما يقرره بضعة أشخاص يديرون دفة البلاد وهم خاسرون أو فائزون بطرق غير ديمقراطية ليس إلا، ومن هنا يجري “تقديس الانتخابات”، لأن الانتخابات بطريقتها “الإطارية”، توفر مساحة للنفوذ الذي لا تهدده الصناديق، ولا الغضب الشعبي الذي يفضل الانكفاء في المنازل أحيانًا.



