الإعلام والحرب – أجنحة الطائر المحنّط

د. علي عنبر السعدي
الإعلام بصفة عامة ، يرتكز على ثلاثة : الإبداع في الإنتاج ـ الفكر في التخطيط ـ المهارة في الأداء.
الإبداع هو القدرة على ابتكار الجديد وسرعة الالتقاط والتميز، أما الفكر، فيعني أن الإعلام بات علماً له أصوله وقواعده ، وبالتالي وضع الخطط الآنية والمستقبلية ، وفق أحدث النظريات في هذا المجال، ثم تأتي المهارة في تجسيد تلك الخطط وطريقة تنفيذها لإيصالها الى المتلقي.
وكأي حقل من المعرفة، يتطلب الاعلام جدولة في كلّ من فروعه وتأثيراته ، ان على صعيد النظرية الإعلامية والقواعد العامة ، في وضع الخطط والبرامج قيد التنفيذ، أو لجهة الرسالة الإعلامية وأهدافها متنوعة الاتجاهات، لذا فالحديث عن الإعلام عموماً، وفي العراق بشكل خاص، بعد الطفرة التي شهدها ، ابتداءً من عام 2003وماتلاها، يمكن عنونته ضمن الخطوط التالية:
-1 – الإعلام و” الحقيقة ” الإعلامية
الرسالة الإعلامية، باتت هي الأسرع وصولاً والأكثر تأثيراً في الناس على مختلف اتجاهاتهم ومشاربهم .
ولما كانت تلك الرسالة تتطلب في جوهرها، نقل الحقيقة إلى المتلقّي ، وبالتالي المساهمة في تشكّل وعيه وتفاعله مع الحدث، لذا فمن الواجب الالتزام بصدقية النقل وحسن الوصول، اعتباراً من إن المتلقّي قيمة إنسانية ينبغي احترامها، إذ تعرّف الحقيقة بأنها حدث شغل حيزاّ في الزمن و المكان، إلا أن ذلك قد لا يعني شيئاً اذا تعارض الهدف الإعلامي لهذه الواسطة الإعلامية أو تلك، إذ بإمكانها صوغ ” حقائقها ” الخاصة وفق طريقة ” الفبركة ” أي خلق مزيج متجانس من عناصر الحدث الأولية، ومن ثم إعادة تشكيلها ضمن سياقات معدّة سلفاً لتتلاءم مع إمكانية الإيحاء بأكثر من اتجاه، وفيها قد يتخلص الناقل من تهمة التلفيق ليدخل في مجال إعادة الصياغة ضمن الأسلوب المتبّع في الإعلام، أو ما يسمى بتحرير الخبر، وهو في محمول الحقيقة دون تقديمها، مثال ذلك ما أوردته قناة عراقية أثر تفجيرات دامية ، حيث بدأ الخبر هكذا: في صراع مكشوف على السلطة … وهي محاولة مسبقة لحرف المتلقي عن الفاعل.
تلك الصياغة مازالت متبّعة في بعض وسائل إعلامنا ـ العراقية والعربية ـ رغم انكشاف عقمها ولا موضوعيتها المهنية ، حيث التلاعب بحقيقة الحدث ، وبالتالي دفع المتلقي نحو زوايا مقصودة لذاتها، ذلك ما يمكن اعتباره ” حقيقة إعلامية ” تبتعد في مضمونها عن الحقيقة الواقعية بنسبة ما ترتئيه هذه الوسيلة الإعلامية أو تلك.
النظريات الحديثة في الإعلام تذهب الى مستويات ثلاث في إيراد المادة الإعلامية ـ خاصة في مجالها الخبري ـ وهي كالتالي:
1ـ الحدث موضوعياً .
2ـ الحدث بخلفيته .
3ـ الحدث في الرأي عنه .
وبالتالي يمكن إيجاز تلك المستويات بما نراه وما نسمعه وما نقوله.
فما تراه العين ـ او عدسة الكاميرا مباشرة ـ يكون خبراً، وهو موجود موضوعياً وينبغي نقله باعتباره حقيقة لايجوز فبركتها أو المساس بها، وإلا فقد المورد صدقيته التي هي أهم من المرتكزات الأساسية في الوسيلة الإعلامية.
امّا مانسمعه عن الحدث، فيشكل الخلفية التي يمكن صياغتها بطريقة لاتفقدها جوهرها ولا تبالغ فيها.
فيما يمثل مانقوله رأينا في الحدث، وهنا تكمن حرية الوسيلة الإعلامية في التعليق على الحدث ، على ان تلتزم بالضوابط العامة لموضوعية الحدث ذاته ، فلا تحملّ الحدث ماليس موجوداً فيه موضوعياً.
2- الإعلام والقرار السياسي
في الأنظمة الديمقراطية عموماً، تكون الحرية صنو الإعلام ورئته التي يتنفس منها، فمن طبيعة الإعلام الفاعل أن يكون مستقلاً باعتباره سلطة رابعة، وعلى ذلك ينبغي ان لا يكون تابعاً بالمعنى المباشر لسلطتي القرار السياسي أو المالي.
في جانب التبعية السياسية، مازالت معظم التشكلات السياسية العراقية من القوى والأحزاب والحركات، تسلك نهجاً متقادماً في رؤيتها للديمقراطية ، فهي تنطلق إجمالاً، من قواعد ثابتة أسست دعائم نظرتها السياسية وحددت ثوابتها واتجاهاتها في مجمل ما تمخض عنها من نتاجات طبعت الكثير من الحركات أو الأحزاب السياسية، وقد يكون لهذا علاقة بما يعانيه الفكر السياسي عموماً، فيما يخصّ مسألة الديمقراطية وحكم المؤسسات، حيث يمكن رصد تلك الظاهرة بقراءة إجمالية في نظم العلاقات واللوائح الداخلية لتلك الأحزاب والحركات.
ومع وجود تمايزت في منطلقات بعض القوى هنا وهناك، إلا أنها التقت في متجه واحد انساقت مجاريه نحو المركزية، لذا فمن النادر أن يلحظ هناك من وضع مسألة اللامركزية هدفاً رئيساً لتوجهاته، بعيداً عن كونه في السلطة أم خارجها، على الرغم من ضخامة الشعارات المرفوعة في الأدبيات والخطاب، فإذا كان فصل السلطات يعتبر المرتكز الأساس في النظم الديمقراطية، فكيف يمكن لقوى سياسية في بلد ديمقراطي ان تنهج نهجاً مخالفاً لذلك؟
الملاحظ ان الفصل بين السلطات ـ التشريعية والتنفيذية والقضائية – لايعني ان تعمل كل منها بمعزل عن الأخرى، بل يقصد بذلك الفصل في التنفيذ والوحدة في الهدف، فالفصل هنا، يأتي في إطار حيوية العمل والأداء العام لخدمة المجتمع، لدى كلّ من هذه السلطات.
أما في القوى السياسية، فما زالت تنظر الى الإعلام بكونه وسيلة دعائية عليه أن ينفّذ ما تقوله القيادات السياسية لهذا التنظيم أو ذاك، من غير ان تتطور الرؤية في ان للإعلام سلطته الخاصة التي تؤهّله لقيام علاقة تكافؤ وتفاعل مع القيادة السياسية، لاعلاقة تبعية واحتواء، ما يجعل الإعلام مجرّداً من كلّ أسلحته اللازمة لنموه وتطوره، في الإبداع والفكر والمهارة، كما أسلفنا.
3- الإعلام والمجتمع:
منذ ان كانت القبيلة تحتفل بولادة شاعرها حيث تعتبر أول قصيدة يقولها، هي ولادته الحقيقة التي يعرف بها متقدمة على ولادته البايولوجية، لعب الإعلام دوره المؤثّر في حياة المجتمع وتكوين ذائقته الأدبية.
كان الشاعر هو إعلام القبيلة ولسانها، ثم جاء دور الكلمة المكتوبة خطّاً على رقعة، فتنوع الإعلام بتنوع أغراضه ومراميه، من رسائل الولاة الى الخلفاء، التي تحمل الإخبار عما يدور من تطورات في ولاياتهم، الى تعاليم الخلفاء وأومرهم لولاتهم.
وحينما اكتشفت الطباعة، حدثت نقلة هائلة في وسائل الإعلام مع ظهور الصحافة التي ازدادت تبعاً لها، نسبة الأخبار والتقارير مختلفة الأغراض ومتسّعة المتلقّين.
الطفرة الأكثر حيوية وبعداً تأثيرياً، جاءت مع اكتشاف إمكانية نقل الأصوات عبر الأثير الى مناطق بعيدة تغطي مساحات شاسعة، فكان الراديو الذي اعتبر يومها ثورة حقيقية في الإعلام.
ثم اخترع التلفزيون الذي أتاح للمشاهد ان يتمتع بتلقي الصورة والصوت إضافة الى سرعة النقل، وصولاً الى البثّ الفضائي الذي ساهم بجعل العالم قرية كونية واحدة.
في كلّ ذلك التطور في وسائل الإعلام، كان التأثير الأكثر فاعلية يسلك اتجاهاً واحداً : من المرسل الإعلامي الى المتلقّي المتفاعل.
لكن التطور ذاته في وسائل النقل الإعلامي، ساهم كذلك في تطور وعي المتلقّي، الذي لم يعد مجرد وعاء يملأه المرسل بما يشاء من مادة إعلامية، بل أصبح المتلقّي عنصراً فاعلاً في التأثير بدوره على وسائل الإعلام، التي طورت نوع خطابها تبعاً لذلك، فأصبحت تتقيد بحيثيات يفرضها أحياناً طبيعة التلقّي سلباً أو إيجاباً.
وعلى ذلك تحولت العلاقة الإعلامية، لا بين مرسل ومتلقّ كما كانت في السابق، بل بين قطبين يتبادلان التأثير أحدهما بالآخر، وقد تراجعت الى حدّ كبير، ماكان يسمى بالدعاية الإعلامية التي تهدف الى الترويج بصياغات إعلامية تقدمها للمجتمع كحقائق ثابتة، وحلّ مكانها إعادة تشكيل للرسالة الإعلامية ذاتها، التي تحاول ابتكار وسائل أكثر تطوّراً وذكاءً—
(*) أجنحة الطائر المحنّط – توحي بالطيران لكنها لاتطير –