بقلم: محمد الحيدري
في أواخر عام 1998، حين خطت إذاعة العراق الحر أولى خطواتها، كنت واحدا من فريقها المؤسس، أعيش تجربة إعلامية استثنائية. لم تكن مجرد محطة إذاعية، بل مشروع يحمل بين طياته رسالة عظيمة في وقت كان فيه العراق بأمس الحاجة لصوت مستقل ينقل الحقيقة ويفسح المجال للتعبير الحر.
كنت أدخل مبنى الإذاعة يوميا بحماسة المبتدئ وحرص المحترف. والجميع، من رئيس الإذاعة إلى مدير تحريرها، ومن المذيعين إلى الفنيين، كانوا يجسدون فكرة العمل الجماعي والالتزام المهني بطريقة لافتة. ما كان يميزنا أننا، رغم اختلافاتنا الفكرية والسياسية، كنا نترك مواقفنا وآراءنا الشخصية خارج أبواب الإذاعة. كان هناك اتفاق ملزِم بيننا هو أن: الإذاعة مساحة مهنية خالصة، توازن بين الرأي والرأي الآخر، وتحترم عقول المستمعين وتطلعاتهم.
من بين الأشخاص الذين رسخوا هذا المنهج، المرحوم السفير ديفيد نيوتن، رئيس القسم آنذاك، الذي أدار العمل برؤية حكيمة وحرص دائم على تعزيز القيم المهنية لإذاعة أوروبا الحرة. إلى جانبه كان الصديق العزيز كامران قره داغي، مدير التحرير، الذي كان مثالا للالتزام والاحترافية، لا يدخر جهدا في توجيه فريق العمل نحو إنتاج إعلام رصين ومتزن.
معا، عملا على تثبيت المبادئ الراسخة للإذاعة، القائمة على
احترام الحقيقة،
والحيادية،
وإعلاء قيمة الإعلام المستقل.
وبحسب اعتقادي فإن أحد الجوانب التي ميزت إذاعة العراق الحر أنها لم تكن تروج لجماعات المعارضة العراقية، رغم أن الكثيرين كانوا يعتبرونها في ذلك الوقت صوتا معارضا. لكنها كانت، في حقيقتها، تتعامل مع المعارضة باعتبارها جزءا من الواقع السياسي العراقي، تستعرض مواقفها كما هي، بكل حيادية وموضوعية. وكانت تسعى لنقل الصورة كاملة، دون انحياز أو محاولة لصياغة رواية أحادية الجانب.
المهنية العالية التي لمسناها في كل تفصيل جعلت من العمل في الإذاعة تجربة تعليمية بامتياز.
مفهوم الإذاعي الشامل كان حاضرا بقوة، حيث لم يكن العمل يقتصر على التقديم فقط. في الغالب كنت أكتب النصوص، وأحرر المواد، وأعدها للتسجيل أو البث المباشر، وأدير الحوارات مع ضيوف من خلفيات متنوعة. كان عليّ أن أكون جاهزا للتعامل مع أي مهمة، وفي ذلك وجدت متعة وتحديا كبيرين.
ما أدهشني دائما هو التزام الفريق بروح التوازن والموضوعية. لم تكن هناك محاولات لفرض رأي أو توجيه المستمع. كان كل فرد منا يشعر بمسؤولية كبيرة تجاه المستمعين، الذين كانوا يعتمدون علينا للحصول على معلومات دقيقة وتحليلات متوازنة في زمن كانت فيه الحقائق تتداخل مع الدعاية.
أذكر أجواء النقاشات التي كانت تدور في قاعة التحرير. كانت مليئة بالحيوية والاحترام، حيث يعبر كل منا عن وجهة نظره، لكن حين يُحسم الأمر، كنا جميعا نعمل بروح واحدة لنقدم للمستمع أفضل ما يمكن. هذا الشعور بالالتزام الجماعي هو ما جعل الإذاعة تختلف عن أي تجربة إعلامية أخرى.
استمرت رحلتي مع إذاعة العراق الحر حتى منتصف عام 2004، وخلال تلك السنوات كنت أشعر يوميا بأنني أشارك في كتابة فصل جديد من تاريخ الإعلام العراقي. كانت الإذاعة، بكل ما قدمته من صوت حر وموضوعي، تجسد جانبا من الأمل بغد أفضل.
اليوم، وأنا أستعيد ذكرياتي عن تلك الفترة، أجد أن التجربة لم تكن مجرد محطة مهنية، بل كانت تجربة مهمة لإثبات أن الإعلام الحقيقي لا يقتصر على نقل الأخبار،
بل يشمل احترام الحقيقة،
والتفاعل الإنساني مع الجمهور،
والالتزام بشرف المهنة.