مسار تصاعدي لتراجع الحرّيات بعد مرور 21 عاماً على الغزو الامريكي لبغداد
مناقشة وضع الحرّيات في العراق، من أهم الأحاديث السياسية وحتى الشعبية العامة في مثل هذه الأيام التي يستذكر فيها العراقيون العام الحادي والعشرين لاحتلال بلادهم من قبل الولايات المتحدة التي رفعت شعار إتاحة الحريات والديمقراطية في العراق. ويؤكد ناشطون وسياسيون وأعضاء في الحراكات المدنية العراقية، التراجع الذي يصفونه بـ”الواضح” و”المتصاعد”، للحرّيات التي تعتبر من أبرز ما تحقّق للعراقيين بعد الغزو الأميركي للبلاد، بالإضافة إلى التعسف في استخدام القانون لملاحقة الناشطين والمدونين والتضييق على الصحافيين خلال العامين الماضيين، أي خلال فترة حكومة محمد شياع السوداني.
وكان من المؤمل أن تدعم هذه الحكومة الحريات، لا سيما وأنها جاءت بعد فترة صعبة شهدها الحراك الاجتماعي والتظاهرات المليونية التي خرجت في البلاد، والتي عرفت باحتجاجات تشرين، في أكتوبر/تشرين الأول 2019. لكن على الأرض لم يتحقق ذلك، فقد لاحقت الدعاوى القضائية خلال الأشهر الماضية عدداً من الصحافيين والإعلاميين، فيما احتجز بعضهم وأفرج عنهم لاحقاً.
الحريات في العراق: وضع غير مستقر
وبحسب مرصد “أيكونيمست انتلجنتس” البريطاني، فقد تراجع العراق 4 مراتب في مؤشر الديمقراطية لعام 2023، ويبدو أنه أدنى مستوى وصلت إليه البلاد منذ الاحتلال الأميركي في عام 2003. وبحسب تقرير المرصد، فإن “العام الماضي كان عاماً مشؤوماً بالنسبة للديمقراطية، حيث انخفض متوسط النتيجة العالمية إلى أدنى مستوى له منذ بدء المؤشر في عام 2006″، مبيناً أن “العراق قد حلَّ في المرتبة 128 عالمياً من أصل 165 دولة بمؤشر الديمقراطية”. وأضاف التقرير: “يظهر تراجع العراق أربع مراتب عن العام السابق (2022) حيث حاز على نقاط تبلغ 2.88 نقطة ما يجعله ضمن (المنطقة الحمراء) حيث يوصف بأنه تحت (حكم استبدادي)”.
تراجع العراق 4 مراتب في مؤشر الديمقراطية لعام 2023، وهو أدنى مستوى وصل إليه منذ الغزو
وتزامن هذه التقرير، مع توجيه رئيس البرلمان العراقي بالإنابة محسن المندلاوي، بإقامة دعوى قضائية على أي مؤسسة أو فرد يسيء للمؤسسة التشريعية وأعضاء المجلس، مشدداً على أن المجلس يستدعي أي جهة تعرقل المهام الرقابية للنواب. وأغضب هذا القرار صحافيين وناشطين اعتبروه تضييقاً عليهم في مساحات انتقاد الإخفاقات في المؤسسة التشريعية. ووصف المرصد العراقي لحقوق الإنسان، هذا القرار، بأنه “خطير للغاية”، لكونه يستخدم مفردة فضفاضة ومطاطية وهي “الإساءة”، ويمكن استخدامها ضد كل شخص ينتقد أو يُعبّر عن رأي لا يعجب المتنفذين. وذكر المرصد في بيان، أن “التوجيه يعد خرقاً كبيراً للدستور، وفق المادة 38 منه، وإشارة واضحة إلى وجود محاولات ممنهجة لتقويض حرّية التعبير عن الرأي”. ورأى أن “حملات التشهير التي تقوم بها قوى سياسية ضد أصحاب الرأي والصحافيين، لا يمكن اعتبارها إلا محاولات تهدد أسس الديمقراطية”، وفقاً للبيان.
كما أشار زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني، أكبر الأحزاب الكردية في البلاد، مسعود البارزاني، إلى أن “الديمقراطية في العراق مهددة بشكلٍ حقيقي من داخل البلاد وخارجها”. يأتي هذا في ظل حملة أطلقها إعلاميون وصحافيون، لمنع المضايقات وتقييد الحريات من قبل مجلس النواب، باعتبار مهامه تقتصر على مراقبة الحكومة وتشريع القوانين ومتابعة المعطل منها بدل ملاحقة الصحافيين والبرامج التلفزيونية والتضييق على حرية الرأي والتعبير.
في السياق، يقول عضو اللجنة القانونية في البرلمان العراقي محمد عنوز: “نحن أمام تحديات لأجل تثبيت الحريات”، موضحاً أن “الحريات في العراق ليست مستقرة، وهناك حراك دائم من الفعاليات الاجتماعية المدنية لأجل تحديدها ومنع سلبها من الأصوات الوطنية والمفكرين والصحافيين”. ويضيف عنوز في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “العراقيين يأملون في مساحات وافية من الحريات لإبداء الرأي والتعبير، بعد عقود من الكبت وسلب إرادتهم وخياراتهم الفكرية”.
تقييد إضافي في عهد حكومة السوداني
وخلال الفترة الأخيرة، فوجئ العراقيون بعودة الاعتقالات لأصحاب الرأي من الناشطين السياسيين والمدونين بعد اعتقال المدوّن والناشط ياسر الجبوري (فبراير/شباط الماضي)، الذي أودع السجن على خلفية تدوينات كان قد كتبها على موقع إكس، واعتقل في مطار بغداد أثناء مغادرته البلاد، لكن أفرج عنه بعد حملة ضغط إعلامية أطلقها صحافيون وناشطون. قبلها جرى اعتقال المحلّل السياسي محمد نعناع (يناير/كانون الثاني الماضي) على خلفية دعوى قضائية رفعها رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، اتهم فيها نعناع بالتجاوز عليه وشتمه، وجرى الإفراج عن المحلّل السياسي بعد تنازل السوداني.
ويشير الإعلامي ومقدم البرامج السياسية حسام الحاج، في موضوع الحرّيات في العراق، إلى أن “الحكومة الحالية تتعمد تشويه حرية التعبير عن الرأي وتشويه شكل الإعلام الموضوعي الدقيق الذي يمارس التقصي، وقد تمكنت من شراء بعض المدونين الصحافيين برواتب شهرية”، مبيناً في حديث لـ”العربي الجديد”، أن “مزاج حكومة السوداني يذهب باتجاهات خطيرة، وهناك حملات لتخوين الصحافيين الأحرار الذين لم تتمكن الحكومة من احتوائهم على طريقتها”.ويعتبر الحاج في حديثه أن “الوضع الحالي هو الأسوأ في العراق من ناحية الحرّيات، والحكومة تتعامل مع الصحافي وأدواته على أنه يهدد النظام العام، لذلك حدثت حالات تعسف من بينها ما حدث مع المحلل محمد نعناع”، مستكملاً حديثه: “أملنا بالقضاء العراقي في حماية الصحافة الحرّة والناشطين من التعسف السياسي من قبل المسؤولين في الحكومة”.
بدوره، يرى الباحث في مركز “الرشيد” للتنمية، حسام الربيعي، أن “استغلال ملف الحرّيات في العراق وحقوق الإنسان في الصراع السياسي هو السمة الأبرز لنظام ما بعد الاحتلال الأميركي، والتهديدات وحملات الشيطنة والتشهير التي تقوم بها جهات سياسية وأخرى مسلحة، تلاحقها شبهات فساد وتجاوز على القانون، كانت وما تزال تدل على وجود توجه ممنهج لتقويض الديمقراطية في البلاد وهي تستهدف الأفراد والمؤسسات المدنية المدافعة عن الحرّيات والحقوق”. ويلفت الربيعي في حديثه مع “العربي الجديد”، إلى أن “الموقف الحكومي هو الأبشع في تقويض الحرّيات، بل إن الممارسات الأخيرة للسلطات العراقية بشقّيها التنفيذي والتشريعي تؤشر بشكل واضح إلى عودة المنظومة الحاكمة لاستخدام أساليب تعسفية تسلطية تستند فيها إلى قوانين الأنظمة الشمولية التي يدعون مقارعتها”.
وعلى الرغم من ذلك، فإن السلطات العراقية سعت في أكثر من مناسبة إلى سنّ قانون حرّية التعبير، الذي يجده صحافيون وناشطون حصاراً قانونياً عليهم، فيما هاجمته منظمة يونسكو (منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة) في وقتٍ سابق، معتبرة أن “أجندة سياسية تقف خلفه، وأنه يخالف للدستور العراقي ولا يتماشى مع المعايير الدولية لحرية الرأي”. وتتضمن نسخة هذا القانون، فقرات تقيّد حريات التعبير وتفرض عقوبات وغرامات مالية.