بقلم: فلاح المشعل
تنتظم المجتمعات الحرة، باختلاف دياناتها ومذاهبها ومكوناتها الإثنية، تحت سقف قانون يحقق العدالة التي تسعى للمساواة بين الجميع في الحقوق والواجبات، بما في ذلك الحقوق الدينية والمذهبية. وإذ تعتمد الدول الديمقراطية على مبدأ المواطنة الذي يلغي الفوارق الدينية بين أفراد المجتمع الواحد، فإنَّ سلطة الدولة والقانون تجعل من وحدة المجتمع القاعدة الأساس، مع احتفاظ كل شخص بحريته في ممارسة اعتقاده الديني أو المذهبي تحت سلطة الدولة. بمعنى آخر، إنَّ الأديان والمذاهب تخضع لسلطة الدولة وقانونها العام الذي يعبر عن التوجهات العامة للدولة. وهنا تصبح الدولة وفلسفتها تمثل المذهب العام لجميع المذاهب الخاصة والمتنوعة. تلك هي فلسفة الدولة المدنية الحديثة.
المجتمعات التي ترتفع فيها نبرة الخطاب الطائفي عادة ما تكون مجتمعات مغلقة على مكون محدد ومنعزلة عن بقية المكونات الوطنية. تجدها تهجر الحاضنة الأكبر، أي الدولة، بل تسعى إلى سحب الدولة وجعلها تمتثل لفكر وتعاليم الطائفة. وهنا تنتفي عن الدولة فكرة الدولة الوطنية، وتنتهي إلى دولة الطوائف، وبهذا يتحقق العزل الاجتماعي لهذه الطوائف.
ما يحدث الآن من توجهات لدى الطبقة السياسية الشيعية في العراق يُعد تطبيقاً لمشروع تحويل العراق إلى دولة الطائفة من خلال تعديل قانون الأحوال الشخصية (188) لسنة 1959 وإحلال قانون الأحوال الشخصية الجعفري بدلاً عنه. الأمر الذي يُسقط معه فكرة الدولة الديمقراطية المدنية بتكوينها الوطني في ظل سيادة قانون يرسم وحدة الدولة ويحفظ الحقوق المدنية للجميع دون تفرقة على أساس الجنس أو الدين أو المذهب.
دولة الطوائف تُكرس مفهوم الاستقواء على الآخر المختلف طائفياً، والمفترض أن يكون شريكاً وطنياً. فإن واقع الحال في الاختلاف الطائفي أو المذهبي والديني سوف ينتقل إلى انقسام مجتمعي، ولا توجد ضوابط لمنع الصراع والاقتتال بين أفراد الدولة الواحدة والمجتمع الواحد بسبب التشاحن والخلافات الطائفية. وبهذا يتحول السعي نحو دولة الطائفة وقانون الطائفة إلى شرك جرمي حقيقي يؤسس للفرقة والاختلاف ويجذره تاريخياً. وهكذا يصبح الطريق السالك والوحيد لمرور مختلف الأجندات الأجنبية، ويمهد لتجزئة الدولة طائفياً، إن لم نقل تقسيمها وسقوطها.
أحزاب الإسلام السياسي الساعية الآن في مجلس النواب العراقي لتمرير تعديل قانون الأحوال الشخصية المذكور أعلاه، إنما تعبر بجلاء تام عن تقاطعها مع دولة المواطنة، وتتجه نحو الانغلاق الطائفي الرجعي الذي يصادر حقوق المرأة، ويجعلها جارية للرجل. وبهذا فهم يخالفون الدستور الذي شرعوه، وخصوصاً المادة 41 من الدستور التي تنص على أن العراقيين أحرار في شؤون أحوالهم الشخصية. فالمسعى للتغيير يعطي الحرية للرجل في الزواج خارج المحكمة، وتعدد الزوجات، والزواج بالقاصرات، وغيرها من الأحكام التعسفية بحق المرأة.
تمرير هذا القانون من قبل مجلس النواب العراقي يُعد إيذاناً بالتوجه نحو نظام الدولة الدينية (الطائفية) الاستبدادية، ويمهد لقوانين أخرى تشابه من حيث المحتوى قوانين الدولة الإسلامية (داعش)، لكن بتسمية شيعية. الأمر الذي يدعو الشعب العراقي للاستيقاظ والوقوف ضد هذه التوجهات الساعية لتدمير المجتمع والدولة، وتحويل العراق إلى كانتونات طائفية متناحرة تزيد التخلف الثقافي والديني عمقاً، وتفوض الفعل الإجرامي بغطاء طائفي!
إنَّ الطبقة السياسية التي تسلمت السلطة بعد 2003، لم تكتفِ بسرقة المال العام وتخريب البلاد وهدر ثرواتها الوطنية والبشرية، بل توجهت لمصادرة الحقوق المدنية التي تحفظ للعراقيين أعرافهم وحقوقهم الشرعية والأخلاقية في حدودها الدنيا.