د. عبد الجبار الرفاعي
لا تخلو آثارُ بعض الكتّاب في وطننا من أحكام سلبية يخصّ بها العراقي، وربما قدحٍ وهجاءٍ وتندّر بظواهر تطغى على سلوكِه وعلاقاتِه الاجتماعية وثقافتِه وطريقةِ تفكيره، وكأن الأفرادَ والمجتمعات الأخرى تخلو من تلك الظواهر. العراقي لا ينفرد بشخصيته وتاريخه وتحولاته عن غيرِه من البشر، طبيعتُه الإنسانية كغيره في مجتمعات أخرى. تاريخُ العراقي ليس مستقلًّا عن تاريخِ البشرية، وشخصيةُ العراقي ليست استثناءً من البشر. العراقي ليس أفضل إنسان ولا أسوأ إنسان، العراقي ككلّ الناس محكومٌ بما يتحكم بحياة ومآلات البشر من عوامل طبيعية ومجتمعية ترسم مصائرَه مع أمثاله من الناس. تطورُ العلوم والمعارف والتكنولوجيا يؤثر على حياة الكلّ بدرجات ليست متطابقة. ينفرد العراقي بعوامل وأحوال ووقائع تخصّه من دون سواه، مثلما ينفرد غيرُه في مجتمعات أخرى بظروف محلية خاصة.
توصيفاتُ وأحكامُ هؤلاء الكتّاب الصارمة بالازدواجية والتناشز والفصام لا يختصّ بها العراقي، يمكن تطبيقُها على أفراد ومجتمعات محكومة بسياقات دينية وثقافية واجتماعية مماثلة لما يعيشه الفردُ والمجتمع العراقي. لو عاش إيُّ إنسانٍ ظروفَ العراقي وتجرّع مرارات واقعه المفروض عليه، يصير سلوكُه مشابهًا لسلوك العراقي. قلّما رأيتُ مَن يعطي مجانًا في مجتمعات عرفتها، رأيتُ بعضَ العراقيين يبادرون فيفيضون محبتَهم ودعمَهم العاطفي وحتى أموالهم مجانًا. عشتُ في بلدان متعددة وعاشرتُ مجتمعات متنوعة، تلمستُ الازدواجيةَ والتناشز والفصام والمراوغة والتمويه والخداع في سلوك الإنسان. رأيتُ شخصيةَ الإنسان في بعض تلك المجتمعات أشدَّ غموضًا وتركيبًا ووعورةً من الشخصية العراقية. هذه ليست حالاتٍ شاذة أو مختصة بفرد أو مجتمع.كلُّ إنسان يحمل تناقضاتٍ في داخله، على وفق البنيةِ السيكولوجية لشخصيته، ونمطِ تربيته، وعقدِه النفسية والتربوية، ودرجةِ وعيه، وكيفيةِ رؤيته لذاته وللعالَم. الطبيعة الإنسانية في غاية التركيب والتعقيد والعمق، يقول علي الوردي: “إن طبيعةَ البشر هي من أصعب المواضيع النفسية والاجتماعية، إن لم تكن أصعبها جميعًا، فهي موضوعٌ متشعبٌ ومعقد إلى أبعد الحدود، والواقعُ أني كلما توغلت في دراسته شعرت بأني لا أزال في أول الطريق، وكلما بحثتُ في جانب منه ظهرت لي جوانبُ أخرى تحتاج إلى بحث. ظهرت في موضوع الطبيعة البشرية نظرياتٌ متعددة، ونشرت فيه دراسات لا تحصى، وأعترف أني أشعر بالعجز تجاه تلك النظريات والدراسات، فهي في غاية الصعوبة، بل من المستحيل استيعابها كلّها. أضف إلى ذلك أنها قد تتعارض وتتناقض، ولهذا يقف الباحثُ حائرًا لا يعرف ماذا يأخذ منها وماذا يترك” . ويكتب ابن خلدون: “إنّ الإنسانَ ابن عوائده ومألوفه لا ابن طبيعته ومزاجه، فالذي ألفه في الأحوال حتّى صار خلقًا وملكة وعادة، تنزّل منزلة الطبيعة والجبلة واعتبر ذلك في الآدميّين تجده كثيرًا صحيحًا” ، ويشرح في موضع آخر من المقدّمة كيف تتشكل شخصيةُ الإنسان في سياق الواقع الذي يعيشه بقوله: “ألا ترى إلى أهل الحضر مع أهل البدو، كيف تجد الحضري متحليًا بالذكاء ممتلئًا من الكيس، حتى إن البدوي ليظنه أنه قد فاته في حقيقة إنسانيته وعقله، وليس كذلك، وما ذاك إلا لإجادته في ملكات الصنائع والآداب في العوائد والأحوال الحضرية ما لا يعرفه البدوي، فلما امتلأ الحضري من الصنائع وملكاتها وحسن تعليمها ظن كلُّ من قصر عن تلك الملكات أنها لكمال في عقله، وأن نفوس أهل البدو قاصرة بفطرتها وجبلتها عن فطرته، وليس كذلك، فإنا نجد من أهل البدو من هو في أعلى رتبة من الفهم والكمال في عقله وفطرته، إنما الذي ظهر على أهل الحضر من ذلك هو رونق الصنائع والتعليم، فان لها آثارًا ترجع إلى النفس” .
لا فرقَ بين العراقي وغيره في مجتمعات أخرى، الإنسانُ محصلة تاريخ الإنسان. الإنسانُ في تلك المجتمعات كثيرًا ما يستطيع التحكّمَ بتناقضاته، ويخفي كثيرًا منها خلفَ أقنعة يتقن حياكتَها. العراقي محتقنٌ متفجر، نتيجة لمعطياتِ الواقع السياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي المفروض عليه، وظروفِ حياته المحكومة بتقاليد استبدادٍ وعنف متواصلة، لذلك غالبًا لا يستطيع إخفاءَ غضبه وتناقضات سلوكه، وهو أقلّ قدرةً على التحكم بانفعالاتِه وردودِ أفعاله الفجائية، إثر الغضب المكبوت زمنًا طويلًا بداخلة.
عندما تتشكّلُ هويةٌ في سياقٍ امبراطوري تتغذّى بنرجسية الإمبراطورية، وتولد وهي تشعر بأنها ممتلئةٌ ثرية، فخورةٌ تعتزُّ بذاتها، مركزيةٌ تتوهم القوةَ والتفوقَ على غيرها. وعندما تتشّكل هويةٌ في سياق احتلالاتٍ واستعبادٍ أجنبي، واستبدادٍ عنيف، تولد وهي تشعر بأنها أشلاءُ محطمةٌ معاقة، هامشيةٌ تحتقر ذاتَها وتنظر لها بازدراء، وتنظر لغيرها بهيبةٍ وإجلالٍ ورهبة، وتظلُّ تدرُ في آفاق وأحلام غيرها.كان العراقيّ من رعايا السلطنة العثمانية، معنى الرعية السلطاني غير معنى المواطنة الدستورية الحديثة، ومفهوم الرعايا غير مفهوم المواطنين. لم تتشكّل في العراق دولةٌ عراقية في العصر العثماني، وكلُّ محاولات تشكيل الدولة منذ عام 1921 حتى اليوم مازالت هشة. يتعذّر تشكّلُ ذاكرة دولة في غياب الدولة، غيابُ ذاكرة الدولة يغيّب مفهومَ الوطن والمواطن والوطنية. لذلك لم تتشكّل هويةٌ عراقية واضحة المعالم، ينغرسُ فيها انتماءُ العراقي لأرضه حتى اليوم. قلّما رأيتُ من يهجو وطنَه في مجتمعات أخرى، حتى إن كان أحيانًا يهجو نفسَه ومحيطَه، لكن العراقيّ يبادرُ فيهجو نفسَه ووطنَه ومواطنَه ومجتمعَه أحيانًا، لضمور مفهومِ الوطن والمواطن والوطنية في شعوره ولاشعوره السياسي العميق.
عند حديثهم عن طبيعة الإنسان العراقي لا يهتمّ هؤلاءُ الكتاب كثيرًا بما تشترك فيه الطبيعةُ الإنسانية للعراقي مع أيّ إنسان في كينونته الوجودية الأبدية. يمكننا التماسُ العذر لبعض هؤلاء الكتاب؛ لأن الرؤيةَ التي تتخطى ثقافةَ الإنسان وأحوالَه الاجتماعية وظروفَه المعيشية، تتطلب تكوينًا فلسفيًّا يتوغل في أنطولوجيا الإنسان وكينونتِه الوجودية، يغوص في أعماق البشر، وينشغل بالكشف عن شيءٍ من كينونتهم العميقة، التي هي أبعدُ من ظروف الإنسان المعيشية، والثقافة الموروثة في بيئته. عندما نتحدثُ عن الإنسان تارةً ننظر للإنسان من حيث هوياته الاجتماعية المتغيرة، أي الإنسان الذي عاش في بيئة وواقع ومجتمع، بمكان وزمان وعصر معين، وأخرى نتحدثُ عنه لا بوصفه الزماني والمكاني والتاريخي الخاص بعصر، بل ننظرُ للإنسان بوصفه إنسانًا، الإنسانُ بكينونته الوجوديه الذي يتسعُ لكل مصداق للإنسان في أيّ زمان ومكان، بغض النظر عن أية هوية متغيرة يكتسبها من المجتمع والثقافة والدين والبيئة والواقع والعصر الذي يعيش فيه. الإنسانُ بكينونته الوجوديه يشترك العراقي فيها مع كلِّ إنسان، مهما كان الزمانُ والمكان والواقعُ المجتمعي الذي يعيشُ فيه.