مسلم عباس
عند التجول وسط العاصمة بغداد تشاهد أبنية عالية، شكلها الخارجي جميل، بناؤها جديد، مدن سكنية متكاملة، والمجتمع داخلها معزول عن ما يجري في الخارج، إذ لا يستطيع أحد الدخول إليها إلا بجواز سفر محلي، صحيح أنت عراقي ويحق لك التنقل بين جميع المناطق وفق المادة 44 من الدستور، لكن دخول المدن السكنية الجديدة يحتاج إلى شروط معينة.
مثلاً يمكن لأي مواطن التنقل في شارع حيفا وسط بغداد، وهو شارع سكني كبير، مليء بالأبنية العالية، ذات الشقق السكنية المتميزة، كما تستطيع الدخول في الشوارع الفرعية بدون مواجهة أي تساؤلات من عناصر الأمن.
وعلى مقربة من شارع حيفا ظهر للوجود مجمع بوابة العراق السكني، تشبه أبنيته أبنية شارع حيفا، لكن الفارق في التعاطي الحكومي معه كمنطقة “حكم ذاتي” شبه منعزل، فيه أجهزة أمن خاصة، ومدارس ورعاية كاملة تتوافر فيها الكهرباء على مدى 24 ساعة، ومياه الشرب مستمرة، وأنظمة جباية الضرائب وغيرها تسير بطريقة سلسلة، القانون يطبق هنا بشكل يختلف كلياً عن خارج المجمع.
جواز سفر محلي
وما ينطبق على مجمع بوابة العراق، يوجد ما يماثله من مجمعات عدة في بغداد وباقي المحافظات، إذ انطلقت فكرة “الحكم الذاتي” عام 2012 عندما بدأت الحكومة بتشييد مجمع بسماية السكني والذي يبعد عن العاصمة بغداد حوالي 20 كيلومتر، بهدف حل أزمة السكن المتفاقمة في العراق، لكن بمرور السنوات تحولت الفكرة من حل أزمة السكن إلى بناء مدن معزولة تماماً عن عامة الناس، وكأننا نبني أقاليم جديدة.
وفي منتصف شهر حزيران من العام الحالي أعلن مكتب رئيس مجلس الوزراء أن رئيس المجلس محمد شياع السوداني ترأس اجتماعاً للجنة العليا للاستثمار والإعمار، وأقر فيه إعلان الفرص الاستثمارية لخمس مدن سكنية جديدة، وهي مدينة الجواهري الجديدة في منطقة أبو غريب بالعاصمة بغداد، ومدينة ضفاف كربلاء بمحافظة كربلاء، ومدينة الفلوجة الجديدة بمحافظة الأنبار، ومدينة الجنائن بمحافظة بابل، ومدينة الغزلاني بمحافظة نينوى.
الفرص الاستثمارية بشأن أزمة السكن يراد منها توفير عشرات آلاف الوحدات السكنية كجزء من الحلول المتبعة لحل أزمة السكن التي أرهقت جزءاً غير صغير من الشعب العراقي، إذ تشير بيانات وزارة التخطيط إلى وجود عجز في قطاع الإسكان بـ4 ملايين وحدة سكنية، بينما يقول رئيس مجلس الوزراء محمد شياع السوداني أن 9% من العراقيين يقطنون العشوائيات.
هل تذهب المدن السكنية الجديدة لمن لا يملكون السكن، أو تحل جزءاً من أزمة العشوائيات؟
المشكلة المركزية في مسألة بناء المدن السكنية الجديدة أنها لا ترتبط بحل أزمة السكن إطلاقاً، فهي مدن للمترفين، أي للأسر التي تملك السكن الملائم، بل في أغلب الأحيان هي مخصصة للطبقات المالكة لأكثر من منزل، وشراء منزل في المدن السكنية الجديدة بالنسبة لبعض الأسر العراقية نوع من أنواع الإعلان عن حالة الترف التي وصل إليها صاحب المنزل.
في المقابل يبقى 9% من سكان العشوائيات في تزايد، وعمليات شطر المنازل وصلت إلى بناء منزل بـ50 متراً فقط، وهذا النوع من المواطنين المعدمين والطبقات منخفضة الدخل لا يحق لهم حتى رؤية ما هو شكل “مجتمعات الحكم الذاتي”، فالأسعار تتراوح بين 200 ألف دولار، 250 ألفاً، فيما يقدَّر حجم الاستثمارات في قطاع السكن بالعاصمة نحو 4 تريليونات دينار عراقي (ما يقارب 2.5 مليار دولار) بحسب الخبير الاقتصادي باسم جميل انطوان.
كما لا يمكن لأي شخص الدخول إلى “مجتمعات الحكم الذاتي”، إلا بعد الحصول على كفالة تضمن أهليته ليتجول فيها، بصفته ضيفاً لأحد الأغنياء، فتشعر وكأن المجمعات السكنية فقاعة محمية من الظروف المحيطة بها، بنفس الطريقة التي يحاول فيها الملياردير الأميركي إيلون ماسك بناء فقاعات سكنية على كوكب المريخ.
في فقاعة ماسك على المريخ لا يحتاج الإنسان إلى إصلاح مجمل سطح كوكب المريخ ليكون ملائماً للسكن البشري، وإذ يعرف بعجزه عن هذه المهمة، فكر ببناء فقاعة كبيرة، ومغلفة كلياً، وفي داخلها تتوفر كافة الظروف المناسبة لعيش البشر.
وفي العراق، اقتبست الفكرة سواء عرفت الحكومة بفقاعة ماسك أم لا، الواضح أن العراق يعاني من أزمة سكن معقدة جداً، وحلها بعيد المنال، فلجأت الحكومة إلى حماية الأغنياء من ازمات البلد، ووضعتهم في فقاعة ذات مواصفات عالية تتناسب مع رغبتهم في العيش برفاهية.
اذهب إلى أي مدينة سكنية جديدة، وتحقق مما أتحدث عنه، هل تستطيع أن تجد أحد القاطنين في المجمعات الجديدة قد انتقل حديثاً من مدن العشوائيات إلى “مدن الحكم الذاتي”، نادراً ما تجد هذا النوع، بل ستجد غالبية القاطنين هنا ممن يملكون أكثر من منزل، ولا يعانون من مشكلة في السكن اللائق، إنما هم في ترحال بحثاً عن الترف الأعلى.
الخلاصة أن مجمعات أو مدن الحكم الذاتي هي التعبير الصادق عن حالة انشطار المجتمع إلى طبقات مترفة تملك كميات هائلة من المال، فتبني المجمعات السكنية الجديدة والمولات وكل ما له علاقة بالترف، بينما هناك طبقات مسحوقة تقاتل بشكل يومي من أجل توفير المال لشراء قطعة صفيح تستخدم كسياج أو سقف يحمي من الظروف الجوية القاسية.
وكلما ازداد الفجوة بين الطبقتين الغنية والفقيرة صنع ذلك مزيداً من الانقسامات المجتمعية وصعب من مهمة إصلاح الأزمات العراقية المتفاقمة.